Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE
latest

العربة والحصان: انقلاب المعنى وخلخلة الموازين

  العربة والحصان: انقلاب المعنى وخلخلة الموازين الدكتور صلاح حمادي الحجاج      في الزمن الذي اعتقد فيه الإنسان أنه الفارس وقائد العربة، وجد ...

 


العربة والحصان: انقلاب المعنى وخلخلة الموازين

الدكتور صلاح حمادي الحجاج

     في الزمن الذي اعتقد فيه الإنسان أنه الفارس وقائد العربة، وجد نفسه في الحقيقة حصانًا يسحبها. وفي العصر الذي ظن انه يحركها بإرادته، تبيّن أن العربة هي من تحركه وتقوده لرغباتها. لقد انقلب المعنى، وتخلخلت الموازين وتحوّل المسير من فعل حرّ إلى استجابة خاضعة لإرادة اقوى. 

        فالإنسان، هذا الكائن الذي حلم منذ القدم بالسيطرة والهيمنة والتوجيه، صار يُقاد بأسماء ومسميات عدة اقترنت تارة باسم الراحة، وباسم العقل، وتارة أخرى باسم ادرأه الأنظمة المهيمنة. في هذا المقال ، نحاول أن نقرأ ثنائية "العربة والحصان" لا بصفتها صورة من صور التراث الفلسفي، بل كـ أداة فلسفية لتفكيك وضع الإنسان المعاصر، اذ لم يعد التمييز واضحًا بين القائد والمقود، بين الإرادة والإيعاز، فقد تحول الفعل الداخلي الذي قدمه (شوبنهاور) المتمثل بالإنسان وارادته الى فعل خارجي شمل الانسان والأنظمة المحيطة به. 

      هنا، تصبح "العربة" رمزًا للمنظومات الكبرى التي توجّه حياة الإنسان: التكنولوجيا، السوق، الاستهلاك، وحتى اللغة والهوية ذاتها. اذ غدا "الحصان" رمزًا لقوة الإنسان الداخلية (جسده، حركته، طاقته) التي لم تعد متصلة بوعيه أو حريته، بل أصبحت تنفّذ ما يُطلب منها بصمت. هذا الانقلاب في المعنى، بين من يقود ومن يُقاد، هو ما نسعى إلى تفكيكه وتأمله، لا بهدف تقديم أجوبة نهائية، بل بهدف استعادة السؤال الأول: من الحصان من العربة ؟ ولماذا؟

       لطالما كانت (العربة والحصان) في التراث الفلسفي رموزًا للثنائية الإنسانية العميقة بين الجسد والعقل، بين الفعل والمفعول. لا يُفهم هذا الثنائي فقط كأداة لحركة الإنسان في العالم، بل كتمثيل لحالة الوجود ذاته، حيث تتداخل القوى الخارجية مع الداخلية، في رحلة الإنسان عبر الزمن.  العربة والحصان في الفلسفة الكلاسيكية في الفلسفات القديمة، كان "الحصان" يُمثّل القوة الجسدية والطبيعة التي لا تنضب، بينما "العربة" كانت وسيلة للوصول إلى غايات محددة، أداة تحكم الاتجاه والحركة. هذه الصورة كانت تعكس في كثير من الأحيان التكامل بين العقل والجسد في السعي نحو غاية أو هدف، حيث كان الإنسان ينظر إلى نفسه كـ "راكب" قادر على توجيه الجسد نحو الطريق الصحيح، مُتبعًا إشارات العقل التي تمثل الحكمة والإرادة الحرة.  

    ففي فلسفة (شوبنهاور)، نجد أن الإرادة التي تتحكم في الحصان، هي القوة العمياء التي تسحب الإنسان نحو العالم الخارجي دون وعي أو هدف عقلاني، أي أن الإنسان ليس الراكب المتحكم، بل هو "الحصان" المجرّد من الإرادة، يُقاد بما تفرضه عليه القوى الخارجية من رغبات ومشاعر.  هذا التحول في فهم العربة والحصان إلى رمز لتصوير التبعية والقيادة داخل الإنسان أصبح أكثر وضوحًا في الفكر الوجودي. هنا، لا يكون الإنسان أبدًا الراكب الذي يوجه، بل "الحصان" الذي يتحرك في مسار لا يسيطر عليه، فالفلسفة الوجودية قد، أشارت إلى أن الإنسان، في وجوده، مثل (الحصان) المقيّد بحاجاته، رغباته، والأنظمة الاجتماعية التي تشكل وعيه.  وهذا ما أكد عليه أيضا عالم النفس (فرويد) من خلال منظومته النفسية المتمثلة بــ(الهو – الانا – الانا العليا) التي دائما ما تأخذ دور الحصان المتحكم بالعربة وما تشكله من صراعات داخلية وسط المنظومة النفسية تجعل من الحصان يتلون بألوان الرغبات وتبقى العربة تسير.

      لكن في رؤية جديدة أصبحت العربة كرمز للنظام الخارجي المحيط بالإنسان وهنا، نبدأ في رؤية العربة كرمز للأنظمة الكبرى التي تتحكم في حياة الإنسان، سواء كانت اجتماعية، اقتصادية، سياسية، أو ثقافية. إذا كانت الفلسفات القديمة ترى العربة كأداة تُستخدم لتحقيق غاية الإنسان، فإن الفلسفات الحديثة قد اختلف لديها الرؤية اذ ترى فيها وسيلة لإعادة تشكيل الإنسان في صورة قابلة للتوجيه والتهيئة بحسب إرادات جماعية فقد أصبح الانسان أكثر تنميطا وترشيدا بل أصبح مرنا سائلا يسهل التحكم به وتشكيله كيفما يشاؤون .  ومن خلال هذا الانقلاب المعنوي، لم يعد الإنسان كما في الفلسفة التقليدية الراكب الذي يوجه، بل أصبح "الحصان" الذي يقوده النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، وهكذا أصبح الفعل الحرّ مفقودًا، والإرادة الداخلية أسيرة.

      وفي الختام، نستطيع أن نقول إن الثنائي بين العربة والحصان، الذي كان يُفهم في البداية كحركة بسيطة من التنقل، قد أصبح رمزًا مركبًا يعكس التوترات الكامنة في الوجود البشري المعاصر. بينما كان الإنسان في الأزمنة القديمة يُرى كراكب يقود جسده وطاقاته نحو غاية معينة، أصبح اليوم الحصان الذي يقوده العالم الخارجي، مع فقدان القدرة على التحكم الكامل في مسار حياته. هذا الانقلاب المعنوي يفرض علينا التفكير في مسألة الحرية: هل نملكها حقًا أم أننا مجرد قوى تنفيذية لتوجيهات أكبر منّا؟ وهل يمكن للإنسان أن يستعيد إرادته في عالم يسير بوتيرة متسارعة تحت ضغط الأنظمة الكبرى؟  تظل هذه الأسئلة معلقة في فضاء الفلسفة المعاصرة، ولكن يظل الأمل في الإنسان هو ذلك الحصان الذي قد يكتشف أخيرًا أنه يمتلك القدرة على تحرير نفسه من العربة التي سحبته وما زالت تسحبه.