Page Nav

HIDE

Grid

GRID_STYLE
latest

السيكوباتية: مرض العصر الخطير

  السيكوباتية: مرض العصر الخطير الدكتور صلاح حمادي الحجاج  في عالم يزداد فيه التنافس وتتراجع فيه القيم، يظهر نمط إنساني مخادع، يحمل ابتسامة ...

 


السيكوباتية: مرض العصر الخطير

الدكتور صلاح حمادي الحجاج

 في عالم يزداد فيه التنافس وتتراجع فيه القيم، يظهر نمط إنساني مخادع، يحمل ابتسامة ساحرة وقلبًا باردًا، لا يعرف الرحمة ولا يؤمن بالندم. إنه (السيكوباتي)، الكائن الذي يجيد التمثيل بدقة، ويتقن فن التلاعب، وماهرا بالصعود على أكتاف الآخرين دون أن يرف له جفن. اذن السيكوباتية ليست مجرد اضطراب نفسي، بل هي مرض العصر، لأنها تنمو وتنتشر بصمت وسط المجتمعات، وتتغذى على تردي القيم، وتلبس ثياب النجاح والقيادة، بينما هي في جوهرها فشلا يهدد الإنسانية.


جذور السيكوباتية: الطفولة، البيئة، والعالم المادي.

     ليست السيكوباتية وليدة لحظة طارئة، بل هي نتيجة تراكب عوامل نفسية وبيئية واجتماعية تتفاعل منذ الطفولة. في مرحلة التكوين الأولى، فقد يعيش الطفل في بيئة تفتقر إلى المحبة، ويغيب فيها الاحتواء العاطفي، أو تكون مشبعة بالعنف والاضطهاد والإهمال. فينشأ وهو يسعى لإيجاد طرق تحميه من الألم، لكنها بنفس الوقت تعزله تدريجيًا عن الإحساس بالآخرين. وهنا الطفولة وحدها لا تكفي لتفسير الظاهرة ولا تعد هي السبب الرئيسي، إذ تلعب البيئة الاجتماعية الحديثة دورًا خطيرًا في تغذية هذا النمط من البشر. فالعالم المادي الاستهلاكي الذي يقدّس الربح، ويكافئ القسوة، ويُعلي من شأن الفردانية المتطرفة، يصنع من السيكوباتية وكأنها سلوكًا ناجحًا لا شذوذًا. هكذا، يتحوّل السيكوباتي إلى شخص يبدو ناجحًا في الظاهر: يملك السلطة، المال، العلاقات... لكنه في الداخل محروم من أبسط المعايير الأخلاقية.


الدوافع الخفية: بين التسلط، الغريزة، والوراثة.

     إذا كانت الجذور تهيّئ الأرضية لنشوء السيكوباتية، فإن الدوافع هي ما يدفع الشخص لارتداء هذا القناع والمضي في طريق الاستغلال والهيمنة. والسؤال الجوهري هنا: ما الذي يدفع السيكوباتي لأن يكون كذلك؟ هل هو محض مصلحة؟ أم دافع غريزي؟ أم اضطرار نفسي لا مفر منه؟ من الواضح أن الدوافع المادية تلعب دورًا مهمًا، إذ يسعى السيكوباتي غالبًا للسيطرة، الامتلاك، والهيمنة. لكنه لا يفعل ذلك بدافع الحاجة فقط، بل بدافع (الإشباع النفسي)، حيث يجد لذة خاصة في التلاعب، ورؤيته للآخرين ضعفاء أمامه. ففي العمق، تتحالف عدة دوافع لتشكل هذا النمط المرضي: - حب التسلط كقيمة نفسية متجذرة. - الأنانية كفلسفة حياة. - انعدام الضمير كآلية دفاعية ووسيلة للنجاة في عالم يراه السيكوباتي قاسيًا وعدائيًا. - وربما أيضًا عوامل وراثية أو عصبية تؤثر على مناطق معينة من الدماغ. لكن الأخطر من كل هذا هو أن السيكوباتي في أحيان كثيرة يختار هذا الطريق بوعي نسبي، لأن المجتمع قد لا يعاقبه، بل يصفق له.


الخصائص السيكوباتية: ثوابت نفسية أم ملامح متغيرة؟

   رغم اختلاف الأفراد وتباينهم عمرا وجنسا، إلا أن الشخصية السيكوباتية غالبًا ما تحمل مجموعة مشتركة من الخصائص النفسية والسلوكية، من أبرزها: - السطحية العاطفية. - التمركز حول الذات. - انعدام الشعور بالذنب. - المهارة في التلاعب. - السحر الظاهري. - السلوك الاندفاعي والعدواني أحيانًا. ومع ذلك، فإن هذه الخصائص ليست جامدة تمامًا، بل تظهر بدرجات متفاوتة حسب الموقف. أما بالنسبة إلى العمر والجنس: - الذكور أكثر عرضة، لكن الإناث قد يظهرن أشكالًا أكثر خفاءً. - لا توجد ملامح جسمانية ثابتة. - تبدأ السمات منذ المراهقة وتُبلور في البلوغ.


هل يمكن احتواء السيكوباتي؟ بين الاستحالة والعلاج المجتمعي

  في مواجهة الشخصية السيكوباتية، يقف المجتمع حائرًا بين الرغبة في الإصلاح والخوف من الأذى. فهل يمكن احتواء السيكوباتي؟ وهل ثمة أمل في تعديله؟ علم النفس يشير إلى أن السيكوباتي غالبًا لا يستجيب للعلاج التقليدي، لأنه لا يرى نفسه مريضًا. ولهذا فإن العلاج الفردي محدود الأثر. لكن يمكن الحد من خطره من خلال: (الوعي المجتمعي). (الحد من التمكين غير الواعي). (وضع ضوابط أخلاقية ومهنية). (النصح الفردي المحدود في حالات بسيطة). لكن السؤال الأخلاقي الأعمق يبقى: هل السيكوباتي ضحية؟ أم جاني؟ سؤال مفتوح يربط الفرد بالمجتمع، والمسؤولية بالبيئة.


وأخيرا .. ليست السيكوباتية مجرد انحراف فردي، بل مرآة لما آل إليه الإنسان حين تخلّى عن القيم، وتبنّى المصلحة المجردة والهيمنة سلوكًا. إن هذا المرض يكشف هشاشة الإنسان الحديث حين ينسى إنسانيته، ويضع نفسه مركزًا لكل شيء. وربما كانت مواجهته لا تبدأ بالعقاقير أو النصائح، بل بإعادة بناء الإنسان على أسس من الرحمة، والمسؤولية، والوعي الأخلاقي العميق.